فصل: قال السمرقندي في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عطية في الآيات السابقة:

{وما جعلْنا أصْحاب النّارِ إِلّا ملائِكة}
قوله تعالى: {كذلك يضل الله من يشاء} أي بهذه الصفة وهذا الرّين على القلوب يضل، ثم أخبر تعالى أنه {يهدي من يشاء} من المؤمنين لما ورد بذلك لعلمهم بالقدرة ووقوف عقولهم على كنه سلطان الله تعالى، فهم موقنون متصورون صحة ما أخبرت به الأنبياء وكتب الله تعالى، ثم قال: {وما يعلم جنود ربك إلا هو} إعلاما بأن الأمر فوق ما يتوهم وأن الخبر إنما هو عن بعض القدرة لا عن كلها، والسماء كلها عامرة بأنواع من الملائكة كلهم في عبادة متصلة وخشوع دائم وطاعة لا فترة في شيء من ذلك ولا دقيقة واحدة. وقوله تعالى: {وما هي إلا ذكرى للبشر} قال مجاهد الضمير في قوله: {وما هي} للنار المذكورة، أي يذكرها البشر فيخافونها فيطيعون الله تعالى. وقال بعض الحذاق: قوله تعالى: {ما هي}، يراد بها الحال والمخاطبة والنذارة، قال الثعلبي: وقيل {وما هي}، يراد نار الدنيا، أي إن هذه تذكرة للبشر بنار الآخرة، وقوله عز وجل: {كلا} رد على الكافرين وأنواع الطاغين على الحق، ثم أقسم ب {القمر}، تخصيص تشريف وتنبيه على النظر في عجائبه وقدرة الله تعالى في حركاته المختلفة التي هي مع كثرتها واختلافها على نظام واحد لا يختل، وكذلك هو القسم ب {الليل} وب {الصبح}، فيعود التعظيم في آخر الفكرة وتحصيل المعرفة إلى الله تعالى مالك الكل وقوام الوجود ونور السماء والأرض، لا إله إلا هو العزيز القهار. وقرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو والكسائي وأبو بكر عن عاصم: {إذ أدبر} بفتح الدال والباء، وهي قراءة ابن عباس وابن المسيب وابن الزبير ومجاهد وعطاء ويحيى بن يعمر وأبي جعفر وشيبة وأبي الزناد وقتادة وعمر بن عبد العزيز والحسن وطلحة. وقرأ نافع وحمزة وحفص عن عاصم، {إذا أدْبر} بسكون الدال وبفعل رباعي، وهي قراءة سعيد بن جبير وأبي عبد الرحمن والحسن بخلاف عنهم والأعرج وأبي شيخ وابن محيصن وابن سيرين، قال يونس بن حبيب:
{دبر} معناه انقضى و{أدبر} معناه تولى. وفي مصحف ابن مسعود وأبيّ بن كعب {إذ أدبر} بفتح الدال وألف وبفعل رباعي وهي قراءة الحسن وأبي رزين وأبي رجاء ويحيى بن يعمر. وسأل مجاهد ابن عباس عن دبر الليل فتركه حتى إذا سمع المنادي الأول للصبح قال له: يا مجاهد، هذا حين دبر الليل، وقال قتادة: دبر الليل ولى. قال الشاعر الأصمعي: الكامل:
وأبي الذي ترك الملوك وجمعهم ** بهضاب هامدة كأمس الدابر

والعرب تقول في كلامها كأمس المدبر، قال أبو علي الفارسي: فالقراءتان جميعا حسنتان و(أسفر الصبح) أضاء وانتشر ضوءه قبل طلوع الشمس بكثير والإسفار رتب أول ووسط وآخر، ومن هذه اللفظة السّفر، والسفر بفتح السين، والسفير وسفرت المرأة عن وجهها كلها ترجع إلى معنى الظهور والانجلاء، وقرأ عيسى بن الفضيل وابن السميفع: {إذا اسفر}، فكأن المعنى طرح الظلمة عن وجهه وضعفها أبو حاتم، وقوله تعالى: {إنها لإحدى الكبر} قال قتادة وأبو رزين وغيره: الضمير لجهنم، ويحتمل أن يكون الضمير للنذارة، وأمر الآخرة فهو للحال والقصة، وتكون هذه الآية مثل قوله عز وجل: {قل هو نبأ عظيم أنتم عنه معرضون} [ص: 68]، و{الكبر}، جمع كبيرة، وقرأ جمهور القراء {لإحدى} بهمزة في ألف إحدى، وروي عن ابن كثير أنه قرأ {لاحدى} دون همزة، وهي قراءة نصر بن عاصم، قال أبو علي: التخفيف في {لإحدى الكبر}، أن تجعل الهمزة فيها بين بين، فأما حذف الهمزة فليس بقياس وقد جاء حذفها. قال أبو الأسود الدؤلي: الكامل:
يا أبا المغيرة رب أمر معضل ** فرجته بالنكر مني والدّها

وأنشد ثعلب: الكامل:
إن لم أقاتل فالبسوني برقعا ** وفتخات في اليدين أربعا

وقوله تعالى: {نذيرا للبشر} قال الحسن بن أبي الحسن: لا نذير إذ هي من النار. وهذا القول يقتضي أن {نذيرا} حال من الضمير في {إنها}. أو من قوله: {لإحدى}، وكذلك أيضا على الاحتمال في أن تكون {إنها} يراد بها قصة الآخرة وحال العالم، وقال أبو رزين: الله جل ذكره هو النذير، فهذا القول يقتضي أن {نذيرا} معمول الفعل تقديره: ليس نذيرا للبشر أو ادعوا نذيرا للبشر، وقال ابن زيد محمد عليه السلام هو النذير: فهذا القول يقتضي أن {نذيرا} معمول لفعل. وهذا اختيار الخليل في هذه الآية ذكره الثعلبي قال: ولذلك يوصف به المؤنث، وقرأ ابن أبي عبلة {نذيرٌ} بالرفع على إضمار هو، وقوله تعالى: {لمن يشاء منكم أن يتقدم أو يتأخر}، قال الحسن هو وعيد نحو قوله تعالى: {فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر} [الكهف: 29]، وقوله تعالى: {ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين} [الحجر: 24].
قال القاضي أبو محمد: هو بيان في النذارة وإعلام أن كل أحد يسلك طريق الهدى والحق إذا حقق النظر، اي هو بعينه يتأخر عن هذه الرتبة بغفلته وسوء نظره ثم قوي هذا المعنى بقوله: {كل نفس بما كسبت رهينة} إذ ألزم بهذا القول أن المقصر مرتهن بسوء عمله. وقال الضحاك: المعنى كل نفس حقت عليها كلمة العذاب، ولا يرتهن تعالى أحدا من أهل الجنة إن شاء الله، والهاء في {رهينة} للمبالغة، أو على تأنيث اللفظ لا على معنى الإنسان وقوله تعالى: {إلا أصحاب اليمين} استثناء ظاهر الانفصال، وتقديره لكن أصحاب اليمين، وذلك لأنهم لم يكتسبوا ما هم به مرتهنون، وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: {أصحاب اليمين} في هذه الآية، أطفال المسلمين، وقال ابن عباس: هم الملائكة، وقال الضحاك: هم الذين سبقت لهم من الله الحسنى، وقال الحسن وابن كيسان: هم المسلمون المخلصون وليسوا بمرتهنين، ثم ذكر تعالى حال {أصحاب اليمين} وأنهم في جنات يسأل بعضهم بعضا عمن غاب من معارفه، فإذا علموا أنهم مجرمون في النار، قالوا لهم أو قالت الملائكة: {ما سلككم في سقر}؟ وسلك معناه: أدخل، ومنه قول أبي وجزة السعدي:
حتى سلكن الشوى منهن في مسك ** من نسل جوابة الآفاق مهداج

{قالوا لمْ نكُ مِن الْمُصلِّين (43)}
هذا هو اعتراف الكفار على أنفسهم وفي نفي الصلاة يدخل الإيمان بالله والمعرفة به والخشوع والعبادة. والصلاة تنتظم على عظم الدين وأوامر الله تعالى وواجبات العقائد، وإطعام المساكين ينتظم الصدقة فرضا وطواعية، وكل إجمال ندبت إليه الشريعة بقول أو فعل والخوض {مع الخائضين} عرفه في الباطل، قال قتادة: المعنى كلما غوى غأو غووا معه، والتكذيب {بيوم الدين} كفر صراح وجهل بالله تعالى، و{اليقين} معناه عندي صحة ما كانوا يكذبون به من الرجوع إلى الله تعالى والدار الآخرة، وقال المفسرون: {اليقين} الموت، وذلك عندي هنا متعقب لأن نفس الموت يقين عند الكافر وهو حي، فإنما {اليقين} الذي عنوا في هذه الآية الشيء الذي كانوا يكذبون به وهم أحياء في الدنيا فتيقنوه بعد الموت. وإنما يتفسر اليقين بالموت في قوله تعالى: {واعبد ربك حتى يأتيك اليقين} [الحجر: 99]. ثم أخبر تعالى أن {شفاعة الشافعين} لا تنفعهم فتقرر من ذلك أن ثم شافعين، وفي صحة هذا المعنى أحاديث: قال صلى الله عليه وسلم: «يشفع الملائكة ثم النبيون ثم العلماء ثم الشهداء ثم الصالحون، ثم يقول الله تعالى: شفع عبادي وبقيت شفاعة أرحم الراحمين، فلا يبقى في النار من كان له إيمان»، وروى الحسن أن الله تعالى يدخل الجنة بشفاعة رجل من هذه الأمة مثل ربيعة ومضر وفي رواية أبي قلابة أكثر من بني تميم، وقال الحسن كنا نتحدث أن الشهيد يشفع في سبعين من أهل بيته، ثم قال عز وجل: {فما لهم عن التذكرة معرضين} أي والحال المنتظرة هي هذه الموصوفة، وقوله تعالى في صفة الكفار المعرضين بتول واجتهاد في نفور {كأنهم حمر مستنفرة} إثبات لجهالتهم لأن الحمر من جاهل الحيوان جدا، وقرأ الأعمش: {حمْر} بإسكان الميم، وفي حرف ابن مسعود {حمر نافرة}، وقرأ نافع وابن عامر والمفضل عن عاصم: {مستنفرة} بفتح الفاء، وقرأ الباقون بكسرها، واختلف عن نافع وعن الحسن والأعرج ومجاهد، فأما فتح الفاء فمعناها استنفرها فزعها من القسورة، وأما كسر الفاء فعلى أن نفر واستنفر بمعنى واحد مثل عجب واستعجب وسخر واستسخر فكأنها نفرت هي، ويقوي ذلك قوله تعالى: {فرت} وبذلك رجح أبو علي قراءة كسر الفاء، واختلف المفسرون في معنى القسورة فقال ابن عباس وأبو موسى الأشعري وقتادة وعكرمة: (القسورة) الرماة، وقال ابن عباس أيضا وأبو هريرة وجمهور من اللغويين: (القسورة) الأسد، ومنه قول الشاعر: الرجز:
مضمر تحذره الأبطال ** كأنه القسورة الرئبال

وقال ابن جبير: (القسورة): رجال القنص، وقاله ابن عباس أيضا، وقيل: (القسورة) ركز الناس، وقيل: (القسورة) الرجال الشداد، قال لبيد:
إذا ما هتفنا هتفة في ندينا ** أتانا الرجال العاندون القسأور

وقال ثعلب: (القسورة) سواد أول الليل خاصة لآخره أو اللفظة مأخوذة من القسر الذي هو الغلبة والقهر، وقوله تعالى: {بل يريد كل امرئ منهم أن يؤتى صحفا منشرة} معناه من هؤلاء المعارضين، أي يريد كل إنسان منهم أن ينزل عليه كتاب من الله، وكان هذا من قول عبد الله بن أبي أمية وغيره. وروي أن بعضهم قال إن كان يكتب في صحف ما يعمل كل إنسان فلتعرض ذلك الصحف علينا فنزلت الآية، و{منشرة}: معناه منشورة غير مطوية، وقرأ سعيد بن جبير {صحْفا} بسكون الحاء وهي لغة يمانية، وقرأ: {منْشرة} بسكون النون وتخفيف الشين، وهذا على أن يشبه نشرت الثوب بأنشر الله الميت إذا لطى كالموت، وقد عكس التيمي التشبيه في قوله: الكامل:
ردت صنائعه عليه حياته ** فكأنه من نشرها منشور

ولا يقال في الميت يحيى منشور إلا على تشبيه بالثوب وأما محفوظ اللغة فنشرت الصحيفة وأنشر الله الميت، وقد جاء عنهم نشر الله الميت، وقوله تعالى: {كلا} رد على إرادتهم أي ليس الأمر كذلك، ثم قال: {بل لا يخافون الآخرة} المعنى هذه العلة والسبب في إعراضهم فكان جهلهم بالآخرة سبب امتناعهم للهدى حتى هلكوا، وقرأ أبو حيوة: {تخافون} بالتاء من فوق رويت عن ابن عامر، ثم أعاد الرد والزجر بقوله تعالى: {كلا} وأخبر أن هذا القول والبيان وهذه المحأورة بجملتها {تذكرة}، {فمن شاء} وفقه الله تعالى لذلك ذكر معاده فعمل له، ثم أخبر تعالى أن ذكر الإنسان معاده وجريه إلى فلاحه إنما هو كله بمشيئة الله تعالى وليس يكون شيء إلاّ بها، وقرأ نافع وأهل المدينة وسلام ويعقوب: {تذكرون} بالتاء من فوق، وقرأ أبو جعفر وعاصم وأبو عمرو والأعمش وطلحة وابن كثير وعيسى والأعرج: {يذكرون} بالياء من تحت، وروي عن أبي جعفر بالتاء من فوق وشد الذال كأنه تتذكرون فأدغم، وقوله تعالى: {هو أهل التقوى وأهل المغفرة} خبر جزم معناه: أن الله تعالى أهل بصفاته العلى ونعمه التي لا تحصى ونقمه التي لا تدفع لأن يتقى ويطاع ويحذر عصيانه وخلاف أمره، وأنه بفضله وكرمه أهل أن يغفر لعباده إذا اتقوه، وروى أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم فسر هذه الآية فقال: «يقول ربكم جلت قدرته وعظمته: أنا أهل أن أتقى فلا يجعل معي إله غيري ومن اتقى أن يجعل معي إلها غيري فأنا أغفر له،» وقال قتادة: معنى الآية هو أهل أن تتقى محارمه وأهل أن يغفر الذنوب.
نجز تفسير سورة المدثر والحمد لله كثيرا. اهـ.

.قال السمرقندي في الآيات السابقة:

قوله تعالى: {يا أيُّها المدثر} يعني: محمدا صلى الله عليه وسلم وقد تدثر بثوبه وأصله المتدثر بثيابه إذا نام فأدغمت التاء في الدال وشددت وروى أبو سلمة بن عبد الرحمن عن جابر بن عبد الله قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يحدث عن فترة الوحي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: في حديثه: «فبيْنما أنا أمْشِي إذْ سمِعْتُ صوتا مِن السّماءِ فرفعْتُ رأْسِي فإِذا الملِكُ الّذِي جاءنِي بِحراء جالِسٌ على كُرْسِي بيْن السّماءِ والأرْضِ فخشيْتُ فرجِعْتُ إِلى أهْلِي فقُلْتُ زمِّلونِي زمِّلونِي فدثرُونِي فنزل {يا أيُّها المُدّثِّرُ}».
{قُمْ فأنذِرْ} يعني: فخوف قومك وادعهم إلى التوحيد ويقال: {قُمْ فأنذِرْ} يعني: قم فصلِّ لله ويقال: {قُمْ فأنذِرْ} يعني: خوفهم بالعذاب إن لم يوحدوا يعني: ادعهم من الكفر إلى الإيمان ثم قال عز وجل: {وربّك فكبّرْ} يعني: فعظمه عما يقولون فيه عبدة الأوثان.
ويقال: فكبر يعني: فكبر للصلاة ثم قال: {وثِيابك فطهّرْ} يعني: طهر قلبك بالتوبة عن الذنوب والمعاصي وهذا قول قتادة وقال مقاتل: يعني: قلبك فطهر بالتوبة وكانت العرب تقول للرجل إذا أذنب دنس الثياب وقال الفراء: يعني: ثيابك فقصر.
وقال الزجاج لأن تقصير الثوب أبعد من النجاسة وإن كان طويلا لا يؤمن أن يصيبه النجاسة ويقال: يعني: لا تقصر فتكون غادرا دنس الثياب وقال مجاهد: {وثيابك فطهر} يعني: نفسك فطهر ويقال: عملك فأخلص ويقال: ظنك فحسن ثم قال: {والرجز فاهجر} يعني: المأثم فاترك ويقال: {الرجز فاهجر} يعني: ارفض عبادة الأوثان قرأ عاصم في رواية حفص {والرجز} بضم الزاء والباقون بكسر الزاء ومعناهما واحد وهم الأوثان يعني: فارفض عبادة الأوثان ويقال: {الرجز} العذاب كقوله تعالى: {فبدّل الذين ظلمُواْ قولا غيْر الذي قِيل لهُمْ فأنزلْنا على الذين ظلمُواْ رِجْزا مِّن السماء بِما كانُواْ يفْسُقُون} [البقرة: 59] ومعناه كل شيء يحرك إلى عذاب الله تعالى فاتركه ثم قال عز وجل: {ولا تمْنُن تسْتكْثِرُ} يعني: لا تعط شيئا قليلا تطلب به أكثر وأفضل في الدنيا وقال الحسن {ولا تمنن تستكثر} يعني: ولا تمنن بعملك على ربك تستكثره وقال مجاهد لا تعط مالك رجاء فضل من الثواب في الدنيا وقال الضحاك لا تعط ولتعطى أكثر منه قوله تعالى: {ولِربّك فاصبر} يعني: اصبر على أمر ربك قال إبراهيم النخعي: اصبر لعظمة ربك وقال مقاتل: {ولربك فاصبر} يعني: يعزي نبيه صلى الله عليه وسلم ليصبر على أذاهم ويقال: فاصبر نفسك في عبادة ربك {فإِذا نُقِر في الناقور} يعني: اصبر فعن قريب ينفخ في الصور.
{فذلِك يوْمئِذٍ يوْمٌ عسِير على الكافرين غيْرُ يسِيرٍ} يعني: شديدا على الكافرين غير يسير يعني: غير هين وفي الآية دليل أن ذلك اليوم يكون على المؤمنين هينا وهذا كقوله تعالى: {الملك يوْمئِذٍ الحق للرحمن وكان يوْما على الكافرين عسِيرا} [الفرقان: 26] لأن الكفار يقطع رجاؤهم في جميع الوجوه.
ثم قال: {ذرْنِى ومنْ خلقْتُ وحِيدا} يعني: اترك هذا الذي خلقته وحيدا وفوض أمره إليّ وهو الوليد بن المغيرة خلقه الله تعالى وحيدا بغير مال ولا ولد {وجعلْتُ لهُ مالا مّمْدُودا} يعني: ورزقته مالا كثيرا قال مجاهد كان له مائة ألف دينار وكان بنوه عشرة وقال بعضهم: كان ماله أربعة آلاف درهم ثم قال عز وجل: {وبنِين شُهودا} يعني: حضورا لا يغيبون عنه في التجارة ولا غيرهم وقال بعضهم: ذرني ومن خلقت وحيدا يعني: إنه لم يكن من قريش وكان ملصقا بهم لأنه ذكر أن أباه المغيرة تبناه بعد ما أتت ثمانية أشهر ولم يكن منه كما قال الله تعالى: {عُتُلٍّ بعْد ذلِك زنِيمٍ} [القلم: 13] {وجعلْتُ لهُ مالا مّمْدُودا} يعني: غير منقطع عنه وبنين شهودا لا يغيبون عنه ولا يحتاجون إلى التصرف وكان له عشرة من البنين وهذا قول الكلبي وغيره وقال مقاتل: سبع بنين {ومهّدتُّ لهُ تمْهِيدا} يعني: بسطت له في المال والخير بسطا ويقال: أمهلت له إمهالا {ثُمّ يطْمعُ أنْ أزِيد} يعني: يطمع أن أزيد ماله وولده.
وذلك أنه تفاخر على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال لي: مالا ممدودا ولي عشرة من البنين فلا يزال يزداد مالي وبني فنزل ثم يطمع أن أزيد يعني: أن أزيد وهو يعصيني {كلاّ} يعني: وهو رد عليه يعني: لا أزيد فما أزداد ماله بعد ذلك ولا ولده ولكن أخذ في النقصان فهلك عامة ماله وولده قوله تعالى: {إِنّهُ كان لاياتنا عنِيدا} يعني: مكذبا معرضا عنها معاندا ثم قال عز وجل: {سأُرْهِقُهُ صعُودا} يعني: يكلف في النار صعود جبل من صخرة ملساء في الباب الخامس تسمى سقر فإذا بلغ رأس العقبة دخل دخان في حلقة فيخرج من جوفه ما كان في جوفه من الأمعاء فإذا سقط في أسفل العقبة سقي من الحميم فإذا بلغ أعلاه انحط منه إلى أسفله من مسيرة سبعين سنة وقال مجاهد: {سأُرْهِقُهُ صعُودا} يعني: مشقة من العذاب وقال الزجاج: سأحمله على مشقة من العذاب ويقال: سأكلفه الصعود على عقبة شاقة والصعود والكؤود بمعنى واحد ثم ذكر خبث أفعاله الذي يستوجب به العقوبة فقال: {إِنّهُ فكّر وقدّر} يعني: إنه فكر في أمر محمد صلى الله عليه وسلم وقدر في أمره وقال ساحر يقول الله عز وجل: {فقُتِل كيْف قدّر} يعني: فلعن كقوله: {قُتِل الخراصون} [الذاريات: 10].
{ثُمّ قُتِل كيْف قدّر} وذلك حين اجتمعوا في دار الندوة ليدبروا أمر محمد صلى الله عليه وسلم وقالوا: هذه أيام الموسم والناس مجتمعون وقد فشا قول هذا الرجل في الناس وهم سائلون عنه فماذا تجيبون وتردون عليهم فقالوا نقول إنه مجنون وقال بعضهم: إنهم يأتونه ويكلمونه فيجدونه فصيحا عاقلا فيكذبونكم فقالوا: نقول شاعر قال بعضهم: هم العرب وقد رأوا الشعراء وقوله: لا يشبه الشعر فيكذبونكم قالوا: نقول كاهن قال بعضهم: إنهم لقوا الكهان وإذا سمعوا قوله وهو يستثني في كلامه المستقبل فيكذبونكم ففكر الوليد بن المغيرة ثم أدبر عنهم ثم رجع إليهم وقال: فكرت في أمره فإذا هو ساحر يفرق بين المرء وزوجه وأقربائه فاجتمع رأيهم على أن يقولوا: ساحر فقتل كيف قدر يعني: كيف قدر بمحمد صلى الله عليه وسلم بالسحر ثم قتل يعني لعن مرة أخرى أي: اللعنة على أثر اللعنة كيف قدر هذا التقدير الذي قال للكفرة إنه ساحر {ثُمّ نظر} يعني: ثم نظر في أمر محمد صلى الله عليه وسلم {ثُمّ عبس} يعني: عبس وجهه أي: كلح وتغير لون وجهه وقال الزجاج: ثم عبس وجهه {وبسر} أي: نظر بكراهة شديدة {ثُمّ أدْبر} يعني أعرض عن الإيمان {واستكبر} يعني: تكبر عن الإيمان ثم قال: {إِنْ هذا إِلاّ سِحْرٌ يُؤْثرُ} يعني: تأثره من صاحب اليمامة يعني: يرويه عن مسيلمة الكذاب ويقال: معناه: ما هذا الذي يقول: إلا سحر يرويه عن جابر ويسار ويقال عن أهل بابل: {إِنْ هذا إِلاّ قول البشر} يعني: ما هذا القرآن إلا قول الآدمي قال الله تعالى: {سأُصْلِيهِ سقر} يعني: سأدخله سقر قال مقاتل: يعني: الباب الخامس وقال الكلبي: هو اسم من أسماء النار {وما أدْراك ما سقرُ} تعظيما لأمرها ثم بين قال: {لا تُبْقِى ولا تذرُ} يعني: لا تبقي لحما إلا أكلته ولا تذرهم إذا أعيدوا فيها خلقا جديدا، ويقال: {لا تبقي ولا تذر} يعني: لا تميت ولا تحيي، ويقال: {لا تبقى} اللحم ولا العظم ولا الجلد إلا أحرقته {ولا تذر} لحما ولا عظما ولا جلدا أي: تدعه محرقا بل تجده خلقا جديدا ثم قال عز وجل: {لواحةٌ لّلْبشرِ} يعني: حراقة للأجساد شواهة للوجوه نزاعة للأعضاء وأصله في اللغة التسويد ويقال: لاحته الشمس إذا غيرته وذلك أن الشيء إذا كان فيه دسومة فإذا أحرق اسود ثم قال: {عليْها تِسْعة عشر} يعني: على النار تسعة عشر من الملائكة مسلطون من رؤساء الخزنة وأما الزبانية فلا يحصى عددهم كما قال في سياق الآية: {وما يعْلمُ جُنُود ربّك إِلاّ هو}.
وإنما أراد تسعة عشر ملكا ومعهم ثمانية عشر أعينهم كالبرق الخاطف ويخرج لهب النار من أفواههم فنزعت عنهم الرأفة غضاب على أهلها يدفع أحدهم سبعين ألفا فلما نزلت هذه الآية قال الوليد بن المغيرة لعنه الله: أنا أكفيكم خمسة وكل ابن لي يكفي واحدا منهم وسائر أهل مكة يكفي أربعة منهم وقال رجل من المشركين وكان له قوة وأنا أكفيكموهم وحدي أدفع عشرة بمنكبي هذا وتسعة بمنكبي الأيسر فألقيهم في النار حتى يحترقوا وتجوزون حتى تدخلون الجنة فنزلت هذه الآية {وما جعلْنا أصحاب النار إلا ملائكة} يعني: ما سلطنا أعوان النار إلا ملائكة زبانية غلاظ شداد لا يغلبهم أحد {وما جعلْنا عِدّتهُمْ} يعني: ما ذكرنا قلة عددهم وهم تسعة عشر {إِلاّ فِتْنة لّلّذِين كفرُواْ} يعني: بلية لهم {لِيسْتيْقِن الذين أوتُواْ الكتاب} وذلك أن أهل الكتاب وجدوا في كتابهم أن مالكا رئيسهم وثمانية عشر من الرؤساء فبين لهم أنما يقوله النبي صلى الله عليه وسلم يقوله: بالوحي {ويزْداد الذين ءامنُواْ إيمانا} يعني: تصديقا وعلما {ولا يرْتاب الذين أوتُواْ الكتاب} يعني: يعلموا أنه حق وعدتهم كذلك {والمؤمنون} أيضا لا يشكون في ذلك {ولِيقول الذين في قُلوبِهِم مّرضٌ} يعني: المنافقين {والكافرون} يعني: المشركين {ماذا أراد الله بهذا مثلا} يعني: بذكر خزنة جهنم تسعة عشر يقول الله تعالى: {كذلِك يُضِلُّ الله من يشاء} يعني: يخذله ولا يؤمن به أمنا له {ويهْدِى من يشاء} يعني: يوفقه لذلك {وما يعْلمُ جُنُود ربّك إِلاّ هو} يعني: من يعلم قوة جنود ربك وكثرتها إلا هو يعني: الله تعالى ويقال: وما يعلم يعني: لا يعلم عدد جموع ربك إلا الله تعالى: {وما هي إِلاّ ذكرى لِلْبشرِ} يعني: الدلائل والحجج في القرآن ويقال: ما هي يعني: القرآن ويقال: وما هي يعني: {سقر} {إلا ذكرى للبشر} يعني: عظه للخلق ثم أقسم الله تعالى لأجل سقر.
فقال: {كلاّ} ردا عليهم {والقمر} يعني: وخالق القمر {واليل إِذْ أدْبر} يعني: ذهب أقسم بخالق الليل {والصبح إِذا أسْفر} أقسم بخالق الصبح {إِنّها لإِحْدى الكبر} يعني: سقر إحدى الكبر العظام وباب من أبواب النار قرأ نافع وحمزة وعاصم في رواية حفص والليل {إذ} بغير ألف {أدبر} بالألف والباقون {إذا} بالألف {دبر} بغير ألف وهما لغتان ومعناهما واحد دبر وأدبر ويقال دبر النهار وأدبر ودبر الليل وأدبر وقال مجاهد: سألت ابن عباس عن قوله: {واليل إِذا أدْبر} فسكت حتى إذا كان آخر الليل قال يا مجاهد هذا حين دبر الليل ويقال: الليل إذا أدبر يعني: إذا جاء بعد النهار والصبح.
{إذا أسفر} يعني: استضاء بأنها أي: سقر لإحدى الكبر يعني: أن سقر لأعظم درجات في النار {نذِيرا لّلْبشرِ} يعني: محمدا صلى الله عليه وسلم نذيرا للخلق وإنما صار نعتا لأنه معناه تم نذيرا للبشر، ويقال: إن العذاب الذي ذكر نذيرا للبشر قوله تعالى: {لِمن شاء مِنكُمْ أن يتقدّم أو يتأخّر} يعني: يتقدم في الخير أو يتأخر إلى المعصية فبينا لكم فهذا وعيد لكم لمن شاء منكم أن يتقدم إلى الطاعة أو يتأخر إلى المعصية كقوله: {وقُلِ الحق مِن رّبِّكُمْ فمن شاء فلْيُؤْمِن ومن شاء فلْيكْفُرْ إِنّا أعْتدْنا لِلظّالِمِين نارا أحاط بِهِمْ سُرادِقُها وإِن يسْتغِيثُواْ يُغاثُواْ بِماءٍ كالمهل يشْوِى الوجوه بِئْس الشراب وساءتْ مُرْتفقا} [الكهف: 29] ويقال: معناه: لمن شاء منكم أن يتقدم إلى التوبة فليوحد أو يتأخر عن التوبة فليقم على الكفر يعني: نذيرا لمن شاء.
ثم قال: {كُلُّ نفْسٍ بِما كسبتْ رهِينةٌ} يعني: كل كافر مرتهن بعمله {إِلاّ أصحاب اليمين} يعني: لكن أصحاب اليمين فإنهم ليسوا مرتهنين بعملهم يعني: الذين أعطوا كتابهم بأيمانهم ويقال: هم الذين عن يمين العرش، ويقال: كل نفس بما كسبت رهينة عند المحاسبة إلا أصحاب اليمين قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: هم أطفال المسلمين يعني: ليس عليهم حساب لأنهم لم يعملوا شيئا ثم قال: {فِى جنات يتساءلون} يعني: إنهم في بساتين يتساءلون {عنِ المجرمين} يعني: يرون أهل النار يسألونهم {ما سلككُمْ في سقر} يعني: ما الذي أدخلكم في سقر فأجابهم أهل النار: {قالواْ لمْ نكُ مِن المصلين} يعني: لم نك نقر بالصلاة ولم نؤدها {ولمْ نكُ نُطْعِمُ المسكين} يعني: كنا لا نقر بالفرائض والزكاة ولا نؤديها.
{وكُنّا نخُوضُ مع الخائضين} يعني: كنا نستهزئ بالمسلمين ونخوض بالباطل ونرد الحق مع المبطلين المستهزئين {وكُنّا نُكذّبُ بِيوْمِ الدين} يعني: بيوم الحساب {حتى أتانا اليقين} يعني: الموت والقيامة قوله تعالى: {فما تنفعُهُمْ شفاعة الشافعين} يعني: لا يسألهم شفاعة الأنبياء وشفاعة الملائكة {فما لهُمْ عنِ التذكرة مُعْرِضِين} فما للمشركين يعرضون عن القرآن والتوحيد {كأنّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتنفِرةٌ} يشبههم بالحمر الوحشية المذعورة حين فروا من القرآن وكذبوا به قرأ نافع وابن عامر {مستنفرة} بنصب الفاء والباقون بالكسر فمن قرأ بالنصب فمعناه منفرة فإن الصائد نفرها ومن قرأ بالكسر ومعناه نافرة ويقال: نفر واستنفر بمعنى واحد ثم قال: {فرّتْ مِن قسْورةٍ} فقال أبو هريرة رضي الله عنه: يعني: الأسد وقال سعيد بن جبير رضي الله عنهم القناص يعني: الصيادين وقال قتادة: القسورة النبل يعني: الرمي بالسهام وهو حس الناس وأصواتهم ثم قال عز وجل: {بلْ يُرِيدُ كُلُّ امرئ مّنْهُمْ} يعني: أهل مكة {أن يؤتى صُحُفا} وذلك أن كفار مكة قالوا إن الرجل من بني إسرائيل إذا أذنب ذنبا يصبح وذنبه وكفارته مكتوب عند رأسه فهل ترينا مثل ذلك إن كنت رسولا فنزل {قسْورةٍ بلْ يُرِيدُ كُلُّ امرئ مّنْهُمْ أن يؤتى صُحُفا مُّنشّرة} يعني: صحفا مكتوب فيها جرمه وتوبته ويقال: نزلت في شأن عبد الله بن أمية المخزومي حين قال: لن نؤمن حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه قال الله تعالى: {كلاّ} يعني: هذا لا يكون لهم أبدا ثم ابتداء فقال: {بل لاّ يخافُون الآخرة} يعني: البعث يعني: لكن لا يخافون عذاب الآخرة {كلاّ إِنّها تذْكِرةٌ} يعني: حقا إن القرآن عظة للخلق {فمن شاء ذكرهُ} يعني: من شاء أن يتعظ به فليتعظ {وما يذْكُرُون إِلاّ أن يشاء} يعني: إلا أن يشاء {الله} لهم، ويقال إلا أن يشاء الله منهم قرأ نافع {وما تذكرون} بالتاء على معنى المخاطبة والباقون بالياء على معنى الخبر عنهم ثم قال عز وجل: {هو أهْلُ التقوى وأهْلُ المغفرة} يعني: هو أهل أن يتقي ولا يشرك به ويوحد ولا يعصى وأهل المغفرة يعني هو أهل أن يغفر لمن أطاعه ولا يشرك ويقال: هو أهل أن يتقى وأهل المغفرة لمن اتقى والله الموفق. اهـ.